فصل: الآية رقم ‏(‏38‏)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏35‏)‏ ‏

{‏وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين ‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقلنا يا آدم اسكن‏}‏ لا خلاف أن الله تعالى أخرج إبليس عند كفره وأبعده عن الجنة، وبعد إخراجه قال لآدم‏:‏ اسكن، أي لازم الإقامة واتخذها مسكنا، وهو محل السكون‏.‏ وسكن إليه يسكن سكونا‏.‏ والسكن‏:‏ النار، قال الشاعر‏:‏

قد قومت بسكن وأدهان

والسكن‏:‏ كل ما سكن إليه‏.‏ والسكين معروف سمي به لأنه يسكن حركة المذبوح، ومنه المسكين لقلة تصرفه وحركته‏.‏ وسكان السفينة عربي، لأنه يسكنها عن الاضطراب‏.‏

في قوله تعالى‏{‏اسكن‏}‏ تنبيه على الخروج، لأن السكنى لا تكون ملكا، ولهذا قال بعض العارفين‏:‏ السكنى تكون إلى مدة ثم تنقطع، فدخولهما في الجنة كان دخول سكنى لا دخول إقامة‏.‏

قلت‏:‏ وإذا كان هذا فيكون فيه دلالة على ما يقول الجمهور من العلماء‏:‏ إن من أسكن رجلا مسكنا له أنه لا يملكه بالسكنى، وأن له أن يخرجه إذا انقضت مدة الإسكان‏.‏ وكان الشعبي يقول‏:‏ إذا قال الرجل داري لك سكنى حتى تموت فهي له حياته وموته، وإذا قال‏:‏ داري هذه اسكنها حتى تموت فإنها ترجع إلى صاحبها إذا مات‏.‏ ونحو من السكنى العمرى، إلا أن الخلاف في العمرى أقوى منه في السكنى‏.‏ وسيأتي الكلام في العمرى في هود إن شاء الله تعالى‏.‏ قال الحربي‏:‏ سمعت ابن الإعرابي يقول‏:‏ لم يختلف العرب في أن هذه الأشياء على ملك أربابها ومنافعها لمن جعلت له العمرى والرقبى والإفقار والإخبال والمنحة والعرية والسكنى والإطراق‏.‏ وهذا حجة مالك وأصحابه في أنه لا يملك شيء من العطايا إلا المنافع دون الرقاب، وهو قول الليث بن سعد والقاسم بن محمد، ويزيد بن قسيط‏.‏

والعمرى‏:‏ هو إسكانك الرجل في دار لك مدة عمرك أو عمره‏.‏ ومثله الرقبى‏:‏ وهو أن يقول‏:‏ إن مت قبلي رجعت إلي وإن مت قبلك فهي لك، وهي من المراقبة‏.‏ والمراقبة‏:‏ أن يرقب كل واحد منهما موت صاحبه، ولذلك اختلفوا في إجازتها ومنعها، فأجازها أبو يوسف والشافعي، وكأنها وصية عندهم‏.‏ ومنعها مالك والكوفيون، لأن كل واحد منهم يقصد إلى عوض لا يدري هل يحصل له، ويتمنى كل واحد منهما موت صاحبه‏.‏ وفي الباب حديثان أيضا بالإجازة والمنع ذكرهما ابن ماجة في سننه، الأول رواه جابر بن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏العمرى جائزة لمن أعمرها والرقبى جائزة لمن أرقبها‏)‏ ففي هذا الحديث التسوية بين العمرى والرقبى في الحكم‏.‏ الثاني رواه ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا رقبى فمن أرقب شيئا فهو له حياته ومماته‏)‏‏.‏ قال‏:‏ والرقبى أن يقول هو للآخر‏:‏ مني ومنك موتا‏.‏ فقوله‏:‏ ‏(‏لا رقبى‏)‏ نهي يدل على المنع، وقوله‏:‏ ‏(‏من أرقب شيئا فهو له‏)‏ يدل على الجواز، وأخرجهما أيضا النسائي‏.‏ وذكر عن ابن عباس قال‏:‏ العمرى والرقبى سواء‏.‏ وقال ابن المنذر‏:‏ ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏العمرى جائزة لمن أعمرها والرقبى جائزة لمن أرقبها‏)‏‏.‏ فقد صحح الحديث ابن المنذر، وهو حجة لمن قال بأن العمرى والرقبى سواء‏.‏ وروي عن علي وبه قال الثوري وأحمد، وأنها لا ترجع إلى الأول أبدا، وبه قال إسحاق‏.‏ وقال طاوس‏:‏ من أرقب شيئا فهو سبيل الميراث‏.‏ والإفقار مأخوذ من فقار الظهر‏.‏ أفقرتك ناقتي‏:‏ أعرتك فقارها لتركبها‏.‏ وأفقرك الصيد إذا أمكنك من فقاره حتى ترميه‏.‏ ومثله الإخبال، يقال‏:‏ أخبلت فلانا إذا أعرته ناقة يركبها أو فرسا يغزو عليه، قال زهير‏:‏

هنالك إن يستخبلوا المال يخبلوا وإن يسألوا يعطوا وإن ييسروا يغلوا

والمنحة‏:‏ العطية‏.‏ والمنحة‏:‏ منحة اللبن‏.‏ والمنيحة‏:‏ الناقه أو الشاة يعطيها الرجل آخر يحتلبها ثم يردها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم‏)‏‏.‏‏"‏ رواه أبو أمامة، أخرجه الترمذي والدارقطني وغيرهما‏"‏، وهو صحيح‏.‏ والإطراق‏:‏ إعارة الفحل، استطرق فلان فلانا فحله‏:‏ إذا طلبه ليضرب في إبله، فأطرقه إياه، ويقال‏:‏ أطرقني فحلك أي أعرني فحلك ليضرب في إبلي‏.‏ وطرق الفحل الناقة يطرق طروقا أي قعا عليها‏.‏ وطروقة الفحل‏:‏ أنثاه، يقال‏:‏ ناقة طروقة الفحل للتي بلغت أن يضربها الفحل‏.‏

قوله تعالى‏{‏أنت وزوجك‏}‏ ‏{‏أنت‏}‏ تأكيد للمضمر الذي في الفعل، ومثله ‏{‏فاذهب أنت وربك‏}‏‏.‏ ولا يجوز اسكن وزوجك، ولا اذهب وربك، إلا في ضرورة الشعر، كما قال‏:‏

قلت إذ أقبلت وزهر تهادى كنعاج الملا تعسفن رملا

ف ‏{‏زهر‏}‏ معطوف على المضمر في ‏{‏أقبلت‏}‏ ولم يؤكد ذلك المضمر‏.‏ ويجوز في غير القرآن على بعد‏:‏ قم وزيد‏.‏

قوله تعالى‏{‏وزوجك‏}‏ لغة القرآن ‏{‏زوج‏}‏ بغير هاء، وقد جاء في‏"‏ صحيح مسلم‏"‏‏{‏زوجة‏}‏ حدثنا عبدالله بن مسلمة بن قعنب قال حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مع إحدى نسائه فمر به رجل فدعاه فجاء فقال‏:‏ ‏(‏يا فلان هذه زوجتي فلانة‏)‏‏:‏ فقال يا رسول الله، من كنت أظن به فلم أكن أظن بك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم‏)‏‏.‏ وزوج آدم عليه السلام هي حواء عليها السلام، وهو أول من سماها بذلك حين خلقت من ضلعه من غير أن يحس آدم عليه السلام بذلك، ولو ألم بذلك لم يعطف رجل على امرأته، فلما انتبه قيل له‏:‏ من هذه‏؟‏ قال‏:‏ امرأة قيل‏:‏ وما اسمها‏؟‏ قال‏:‏ حواء، قيل‏:‏ ولم سميت امرأة‏؟‏ قال‏:‏ لأنها من المرء أخذت، قيل‏:‏ ولم سميت حواء‏؟‏ قال‏:‏ لأنها خلقت من حي‏.‏ روي أن الملائكة سألته عن ذلك لتجرب علمه، وأنهم قالوا له‏:‏ أتحبها يا آدم‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قالوا لحواء‏:‏ أتحبينه يا حواء‏؟‏ قالت‏:‏ لا، وفي قلبها أضعاف ما في قلبه من حبه‏.‏ قالوا‏:‏ فلو صدقت امرأة في حبها لزوجها لصدقت حواء‏.‏ وقال ابن مسعود وابن عباس‏:‏ لما أسكن آدم الجنة مشى فيها مستوحشا، فلما نام خلقت حواء من ضلعه القصرى من شقه الأيسر ليسكن إليها ويأنس بها، فلما انتبه رآها فقال‏:‏ من أنت‏؟‏ قالت‏:‏ امرأة خلقت من ضلعك لتسكن إلي، وهو معنى قوله تعالى‏{‏هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها‏}‏ ‏.‏ قال العلماء‏:‏ ولهذا كانت المرأة عوجاء، لأنها خلقت من أعوج وهو الضلع‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن المرأة خلقت من ضلع - في رواية‏:‏ وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه - لن تستقيم لك على طريقة واحدة فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوج وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها‏)‏‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

هي الضلع العوجاء ليست تقيمها ألا إن تقويم الضلوع انكسارها

أتجمع ضعفا واقتدارا على الفتى أليس عجيبا ضعفها واقتدارها

ومن هذا الباب استدل العلماء على ميراث الخنثى المشكل إذا تساوت فيه علامات النساء والرجال في اللحية والثدي والمبال بنقص الأعضاء‏.‏ فإن نقصت أضلاعه عن أضلاع المرأة أعطي نصيب رجل - روي ذلك عن علي رضي الله عنه - لخلق حواء من أحد أضلاعه، وسيأتي في المواريث بيان هذا إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏الجنة ‏}‏الجنة‏:‏ البستان، وقد تقدم القول فيها‏.‏ ولا التفات لما ذهبت إليه المعتزلة والقدرية من أنه لم يكن في جنة الخلد وإنما كان في جنة بأرض عدن‏.‏ واستدلوا على بدعتهم بأنها لو كانت جنة الخلد لما وصل إليه إبليس، فإن الله يقول‏{‏لا لغو فيها ولا تأثيم‏}‏ ‏.‏ وقال ‏{‏لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا‏} ‏ُ ‏.‏ وقال‏{‏لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما‏.‏ إلا قيلا سلاما‏}‏ ُ ‏.‏ وأنه لا يخرج منها أهلها لقوله‏{‏وما هم منها بمخرجين‏} ‏ ‏.‏ وأيضا فإن جنة الخلد هي دار القدس، قدست عن الخطايا والمعاصي تطهيرا لها‏.‏ وقد لغا فيها إبليس وكذب، وأخرج منها آدم وحواء بمعصيتهما‏.‏ قالوا‏:‏ وكيف يجوز على آدم مع مكانه من الله وكمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد والملك الذي لا يبلى‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن الله تعالى عرف الجنة بالألف واللام، ومن قال‏:‏ أسأل الله الجنة، لم يفهم منه في تعارف الخلق إلا طلب جنة الخلد‏.‏ ولا يستحيل في العقل دخول إبليس الجنة لتغرير آدم، وقد لقي موسى آدم عليهما السلام فقال له موسى‏:‏ أنت أشقيت ذريتك وأخرجتهم من الجنة، فأدخل الألف واللام ليدل على أنها جنة الخلد المعروفة، فلم ينكر ذلك آدم، ولو كانت غيرها لرد على موسى، فلما سكت آدم على ما قرره موسى صح أن الدار التي أخرجهم الله عز وجل منها بخلاف الدار التي أخرجوا إليها‏.‏ وأما ما احتجوا به من الآي فذلك إنما جعله الله فيها بعد دخول أهلها فيها يوم القيامة، ولا يمتنع أن تكون دار الخلد لمن أراد الله تخليده فيها وقد يخرج منها من قضي عليه بالفناء‏.‏ وقد أجمع أهل التأويل على أن الملائكة يدخلون الجنة على أهل الجنة ويخرجون منها، وقد كان مفاتيحها بيد إبليس ثم انتزعت منه بعد المعصية، وقد دخلها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء ثم خرج منها وأخبر بما فيها وأنها هي جنة الخلد حقا‏.‏ وأما قولهم‏:‏ إن الجنة دار القدس وقد طهرها الله تعالى من الخطايا فجهل منهم، وذلك أن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدسة وهي الشام، وأجمع أهل الشرائع على أن الله تعالى قدسها وقد شوهد فيها المعاصي والكفر والكذب ولم يكن تقديسها مما يمنع فيها المعاصي، وكذلك دار القدس‏.‏ قال أبو الحسن بن بطال‏:‏ وقد حكى بعض المشايخ أن أهل السنة مجمعون على أن جنة الخلد هي التي أهبط منها آدم عليه السلام، فلا معنى لقول من خالفهم‏.‏ وقولهم‏:‏ كيف يجوز على آدم في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد، فيعكس عليهم ويقال‏:‏ كيف يجوز على آدم وهو في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد في دار الفناء هذا ما لا يجوز على من له أدنى مسكة من عقل، فكيف بآدم الذي هو أرجح الخلق عقلا، على ما قال أبو أمامة على ما يأتي‏.‏

قوله تعالى‏{‏وكلا منها رغدا حيث شئتما‏}‏ قراءة الجمهور ‏{‏رغدا‏}‏ بفتح الغين‏.‏ وقرأ النخعي وابن وثاب بسكونها‏.‏ والرغد‏:‏ العيش الدار الهني الذي لا عناء فيه، قال‏:‏

بينما المرء تراه ناعما يأمن الأحداث في عيش رغد

ويقال‏:‏ رغد عيشهم ورغد بضم الغين وكسرها‏.‏ وأرغد القوم‏:‏ أخصبوا وصاروا في رغد من العيش‏.‏ وهو منصوب على الصفة لمصدر محذوف، وحيثُ وحيثَ وحيثِ، وحوثَ وحوثِ وحاث، كلها لغات، ذكرها النحاس وغيره‏.‏

قوله تعالى ‏{‏وكلا منها رغدا‏}‏ حذفت النون من ‏{‏كلا‏}‏ لأنه أمر، وحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال، وحذفها شاذ‏.‏ قال سيبويه‏:‏ من العرب من يقول أأكل، فيتم‏.‏ يقال منه‏:‏ أكلت الطعام أكلا ومأكلا‏.‏ والأكلة بالفتح المرة الواحدة حتى تشبع‏.‏ والأكلة بالضم اللقمة، تقول‏:‏ أكلت أكلة واحدة، أي لقمة، وهي القرصة أيضا‏.‏ وهذا الشيء أكلة لك، أي طعمة لك‏.‏ والأكل أيضا ما أكل‏.‏ ويقال‏:‏ فلان ذو أكل إذا كان ذا حظ من الدنيا ورزق واسع‏.‏ ‏{‏رغدا‏}‏ نعت لمصدر محذوف، أي أكلا رغدا‏.‏ قال ابن كيسان‏:‏ ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال‏.‏ وقال مجاهد‏{‏رغدا‏}‏ أي لا حساب عليهم‏.‏ والرغد في اللغة‏.‏ الكثير الذي لا يعنيك، ويقال‏:‏ أرغد القوم، إذا وقعوا في خصب وسعة‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى‏.‏ ‏{‏حيث‏}‏ مبنية على الضم، لأنها خالفت أخواتها الظروف في أنها لا تضاف، فأشبهت قبل وبعد إذا أفردتا فضمت‏.‏ قال الكسائي‏:‏ لغة قيس وكنانة الضم، ولغة تميم الفتح‏.‏ قال الكسائي‏:‏ وبنو أسد يخفضونها في موضع الخفض، وينصبونها في موضع النصب، قال الله تعالى‏{‏سنستدرجهم من حيث لا يعلمون‏}‏.‏ وتضم وتفتح‏.‏ ‏{‏ولا تقربا هذه الشجرة ‏}‏الهاء من ‏{‏هذه‏}‏ بدل من ياء الأصل، لأن الأصل هذي‏.‏ قال النحاس‏:‏ ولا أعلم في العربية هاء تأنيث مكسورا ما قبلها إلا هاء ‏{‏هذه‏}‏ ومن العرب من يقول‏:‏ هاتا هند، ومنهم من يقول‏:‏ هاتي هند‏.‏ وحكى سيبويه‏:‏ هذه هند، بإسكان الهاء‏.‏ وحكى الكسائي عن العرب‏:‏ ولا تقربا هذي الشجرة‏.‏ وعن شبل ابن عباد قال‏:‏ كان ابن كثير وابن محيصن لا يثبتان الهاء في ‏{‏هذه‏}‏ في جميع القرآن‏.‏ وقراءة الجماعة ‏{‏رغدا‏}‏ بفتح الغين‏.‏ وروي عن ابن وثاب والنخعي أنهما سكّنا الغين‏.‏ وحكى سلمة عن الفراء قال يقال‏:‏ هذه فعلت وهذي فعلت، بإثبات ياء بعد الذال‏.‏ وهذِ فعلت، بكسر الذال من غير إلحاق ياء ولا هاء‏.‏ وتا فعلت‏.‏ قال هشام ويقال‏:‏ تا فعلت‏.‏ وأنشد‏:‏

خليلي لولا ساكن الدار لم أقم بتا الدار إلا عابر ابن سبيل

قال ابن الأنباري‏:‏ وتا بإسقاط ها بمنزلة ذي بإسقاط ها من هذي، وبمنزلة ذه بإسقاط ها من هذه‏.‏ وقد قال الفراء‏:‏ من قال هذ قامت لا يسقط ها، لأن الاسم لا يكون على ذال واحدة‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا تقربا هذه الشجرة‏}‏ أي لا تقرباها بأكل، لأن الإباحة فيه وقعت‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ سمعت الشاشي في مجلس النضر ‏(1) يقول‏:‏ إذا قيل لا تقرب بفتح الراء كان معناه لا تلبس بالفعل، وإذا كان ‏(‏بضم الراء‏)‏ فإن معناه لا تدن منه‏.‏ وفي الصحاح‏:‏ قرب الشيء يقرب قربا أي دنا‏.‏ وقربته بالكسر أقربه قربانا أي دنوت منه‏.‏ وقربت أقرب قرابة - مثل كتبت أكتب كتابة - إذا سرت إلى الماء وبينك وبينه ليلة، والاسم القرب‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ قلت لأعرابي‏:‏ ما القرب‏؟‏ فقال‏:‏ سير الليل لورد الغد‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ قال بعض الحذاق‏:‏ إن الله تعالى لما أراد النهي عن أكل الشجرة نهى عنه بلفظ يقتضي الأكل وما يدعو إليه العرب وهو القرب‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا مثال بين في سد الذرائع‏.‏ وقال بعض أرباب المعاني قوله‏{‏ولا تقربا‏}‏ إشعار بالوقوع في الخطيئة والخروج من الجنة، وأن سكناه فيها لا يدوم، لأن المخلد لا يحظر عليه شيء ولا يؤمر ولا ينهى‏.‏ والدليل على هذا قوله تعالى ‏{‏إني جاعل في الأرض خليفة‏}‏ ‏.‏ فدل على خروجه منها‏.‏

قوله تعالى‏{‏هذه الشجرة‏}‏ الاسم المبهم ينعت بما فيه الألف واللام لا غير، كقولك‏:‏ مررت بهذا الرجل وبهذه المرأة وهذه الشجرة‏.‏ وقرأ ابن محيصن‏{‏هذي الشجرة‏}‏ بالياء وهو الأصل، لأن الهاء في هذه بدل من ياء ولذلك انكسر ما قبلها، وليس في الكلام هاء تأنيث قبلها كسرة سواها، وذلك لأن أصلها الياء‏.‏

والشجرة والشجرة والشيرة، ثلاث لغات وقرئ ‏{‏الشجرة‏}‏ بكسر الشين‏.‏ والشَجرة والشِجرة‏:‏ ما كان على ساق من نبات الأرض‏.‏ وأرض شجيرة وشجراء أي كثيرة الأشجار، وواد شجير، ولا يقال‏:‏ واد أشجر‏.‏ وواحد الشجراء شجرة، ولم يأت من الجمع على هذا المثال إلا أحرف يسيرة‏:‏ شجرة وشجراء، وقصبة وقصباء، وطرفة وطرفاء، وحلفة وحلفاء‏.‏ وكان الأصمعي يقول في واحد الحلفاء‏:‏ حلفة، بكسر اللام مخالفة لأخواتها‏.‏ وقال سيبويه‏:‏ الشجراء واحد وجمع، وكذلك القصباء والطرفاء والحلفاء‏.‏ والمشجرة‏:‏ موضع الأشجار‏.‏ وأرض مشجرة، وهذه الأرض أشجر من هذه أي أكثر شجرا، قال الجوهري‏.‏

التاسعة‏:‏ واختلف أهل التأويل في تعيين هذه الشجرة التي نهي عنها فأكل منها، فقال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وجعدة بن هبيرة‏:‏ هي الكرم، ولذلك حرمت علينا الخمر‏.‏ وقال ابن عباس أيضا وأبو مالك وقتادة‏:‏ هي السنبلة، والحبة منها ككلى البقر، أحلى من العسل وألين من الزبد، قاله وهب بن منبه‏.‏ ولما تاب الله على آدم جعلها غذاء لبنيه‏.‏ وقال ابن جريج عن بعض الصحابة‏:‏ هي شجرة التين، وكذا روى سعيد عن قتادة، ولذلك تعبر في الرؤيا بالندامة لآكلها من أجل ندم آدم عليه السلام على أكلها، ذكره السهيلي‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وليس في شيء من هذا التعيين ما يعضده خبر، وإنما الصواب أن يعتقد أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة فخالف هو إليها وعصى في الأكل منها‏.‏ وقال القشيري أبو نصر‏:‏ وكان الإمام والدي رحمه الله يقول‏:‏ يعلم على الجملة أنها كانت شجرة المحنة‏.‏

واختلفوا كيف أكل منها مع الوعيد المقترن بالقرب وهو قوله تعالى‏{‏فتكونا من الظالمين‏}‏، فقال قوم أكلا من غير التي أشير إليها فلم يتأولا النهي واقعا على جميع جنسها، كأن إبليس غره بالأخذ بالظاهر قال ابن العربي‏:‏ وهي أول معصية عصي الله بها على هذا القول‏.‏ قال‏{‏وفيه دليل على أن من حلف ألا يأكل من هذا الخبز فأكل من جنسه حنث‏.‏ وتحقيق المذاهب فيه أن أكثر العلماء قالوا‏:‏ لا حنث فيه‏.‏ وقال مالك وأصحابه‏:‏ إن اقتضى بساط اليمين تعيين المشار إليه لم يحنث بأكل جنسه، وإن اقتضى بساط اليمين أو سببها أو نيتها الجنس حمل عليه وحنث بأكل غيره، وعليه حملت قصة آدم عليه السلام فإنه نهي عن شجرة عينت له وأريد بها جنسها، فحمل القول على اللفظ دون المعنى‏.‏

وقد اختلف علماؤنا في فرع من هذا، وهو أنه إذا حلف ألا يأكل هذه الحنطة فأكل خبزا منها على قولين، قال في الكتاب‏:‏ يحنث، لأنها هكذا تؤكل‏.‏ وقال ابن المواز‏:‏ لا شيء عليه، لأنه لم يأكل حنطة وإنما أكل خبزا فراعى الاسم والصفة‏.‏ ولو قال في يمينه‏:‏ لا آكل من هذه الحنطة لحنث بأكل الخبز المعمول منها وفيما اشترى بثمنها من طعام وفيما أنبتت خلاف‏.‏ قال آخرون‏:‏ تأولا النهي على الندب‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا وإن كان مسألة من أصول الفقه فقد سقط ذلك ههنا، لقوله‏{‏فتكونا من الظالمين‏}‏ ‏.‏ فقرن النهي بالوعيد، وكذلك قوله سبحانه‏{‏فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى‏} ‏ .‏ وقال ابن المسيب‏:‏ إنما أكل آدم بعد أن سقته حواء الخمر فسكر وكان في غير عقله‏.‏ وكذلك قال يزيد بن قسيط، وكانا يحلفان بالله أنه ما أكل من هذه الشجرة وهو يعقل‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا فاسد نقلا وعقلا، أما النقل فلم يصح بحال، وقد وصف الله عز وجل خمر الجنة فقال‏{‏لا فيها غول‏}‏‏.‏ وأما العقل فلأن الأنبياء بعد النبوة معصومون عما يؤدي إلى الإخلال بالفرائض واقتحام الجرائم‏.‏

قلت‏:‏ قد استنبط بعض العلماء نبوة آدم عليه السلام قبل إسكانه الجنة من قوله تعالى‏{‏فلما أنبأهم بأسمائهم‏} ‏ُ ‏.‏فأمره الله تعالى أن ينبئ الملائكة بما ليس عندهم من علم الله جل وعز‏.‏ وقيل‏:‏ أكلها ناسيا، ومن الممكن أنهما نسيا الوعيد‏.‏

قلت‏:‏ وهو الصحيح لإخبار الله تعالى في كتابه بذلك حتما وجزما فقال‏{‏ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما‏} ‏ .‏ ولكن لما كان الأنبياء عليهم السلام يلزمهم من التحفظ والتيقظ لكثرة معارفهم وعلو منازلهم ما لا يلزم غيرهم كان تشاغله عن تذكر النهي تضييعا صار به عاصيا، أي مخالفا‏.‏ قال أبو أمامة‏:‏ لو أن أحلام بني آدم منذ خلق الله الخلق إلى يوم القيامة وضعت في كفة ميزان ووضع حلم آدم في كفة أخرى لرجحهم، وقد قال الله تعالى‏{‏ولم نجد له عزما‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ قول أبي أمامة هذا عموم في جميع بني آدم‏.‏ وقد يحتمل أن يخص من ذلك نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه كان أوفر الناس حلما وعقلا‏.‏ وقد يحتمل أن يكون المعنى لو أن أحلام بني آدم من غير الأنبياء‏.‏ والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ والقول الأول أيضا حسن، فظنا أن المراد العين وكان المراد الجنس، كقول النبي صلى الله عليه وسلم حين أخذ ذهبا وحريرا فقال‏:‏ ‏(‏هذان حرامان على ذكور أمتي‏)‏‏.‏ وقال في خبر آخر‏:‏ ‏(‏هذان مهلكان أمتي‏)‏‏.‏ وإنما أراد الجنس لا العين‏.‏

يقال‏:‏ إن أول من أكل من الشجرة حواء بإغواء إبليس إياها - على ما يأتي بيانه - وإن أول كلامه كان معها لأنها وسواس المخدة، وهي أول فتنة دخلت على الرجال من النساء، فقال‏:‏ ما منعتما هذه الشجرة إلا أنها شجرة الخلد، لأنه علم منهما أنهما كانا يحبان الخلد، فأتاهما من حيث أحبا - حبك الشيء يعمي ويصم - فلما قالت حواء لآدم أنكر عليها وذكر العهد، فألح على حواء وألحت حواء على آدم، إلى أن قالت‏:‏ أنا آكل قبلك حتى إن أصابني شيء سلمت أنت، فأكلت فلم يضرها، فأتت آدم فقالت‏:‏ كل فإني قد أكلت فلم يضرني، فأكل فبدت لهما سوآتهما وحصلا في حكم الذنب، لقول الله تعالى‏{‏ولا تقربا هذه الشجرة‏}‏ فجمعهما في النهي، فلذلك لم تنزل بها العقوبة حتى وجد المنهي عنه منهما جميعا، وخفيت على آدم هذه المسألة، ولهذا قال بعض العلماء‏:‏ إن من قال لزوجتيه أو أمتيه‏:‏ إن دخلتما الدار فأنتما طالقتان أو حرتان، إن الطلاق والعتق لا يقع بدخول إحداهما‏.‏ وقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال، قال ابن القاسم‏:‏ لا تطلقان ولا تعتقان إلا باجتماعهما في الدخول، حملا على هذا الأصل وأخذا بمقتضى مطلق اللفظ‏.‏ وقاله سحنون‏.‏ وقال ابن القاسم مرة أخرى‏:‏ تطلقان جميعا وتعتقان جميعا بوجود الدخول من إحداهما، لأن بعض الحنث حنث، كما لو حلف ألا يأكل هذين الرغيفين فإنه بحنث بأكل أحدهما بل بأكل لقمة منهما‏.‏ وقال أشهب‏:‏ تعتق وتطلق التي دخلت وحدها، لأن دخول كل واحدة منهما شرطا في طلاقها أو عتقها‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا بعيد، لأن بعض الشرط لا يكون شرطا إجماعا‏.‏

قلت‏:‏ الصحيح الأول، وإن النهي إذا كان معلقا على فعلين لا تتحقق المخالفة إلا بهما، لأنك إذا قلت‏:‏ لا تدخلا الدار، فدخل أحدهما ما وجدت المخالفة منهما، لأن قول الله تعالى ‏{‏ولا تقربا هذه الشجرة‏}‏ ‏.‏ نهي لهما ‏{‏فتكونا من الظالمين‏}‏ ‏.‏ جوابه، فلا يكونا من الظالمين حتى يفعلا، فلما أكلت لم يصبها شيء، لأن المنهي عنه ما وجد كاملا‏.‏ وخفي هذا المعنى على آدم فطمع ونسي هذا الحكم، وهو معنى قوله تعالى‏{‏ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي‏} ‏ ‏.‏ وقيل‏:‏ نسي قوله‏{‏إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى‏} ‏ ‏.‏ والله أعلم‏.‏

واختلف العلماء في هذا الباب هل وقع من الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين - صغائر من الذنوب يؤاخذون بها ويعاتبون عليها أم لا - بعد اتفاقهم على أنهم معصومون من الكبائر ومن كل رزيلة فيها شين ونقص إجماعا عند القاضي أبي بكر، وعند الأستاذ أبي إسحاق أن ذلك مقتضى دليل المعجزة، وعند المعتزلة أن ذلك مقتضى دليل العقل على أصولهم - ، فقال الطبري وغيره من الفقهاء والمتكلمين والمحدثين‏:‏ تقع الصغائر منهم‏.‏ خلافا للرافضة حيث قالوا‏:‏ إنهم معصومون من جميع ذلك، واحتجوا بما وقع من ذلك في التنزيل وثبت من تنصلهم من ذلك في الحديث، وهذا ظاهر لا خفاء فيه‏.‏ وقال جمهور من الفقهاء من أصحاب مالك وأبي حنيفة والشافعي‏:‏ إنهم معصومون من الصغائر كلها كعصمتهم من الكبائر أجمعها، لأنا أمرنا باتباعهم في أفعالهم وآثارهم وسيرهم أمرا مطلقا من غير التزام قرينة، فلو جوزنا عليهم الصغائر لم يمكن الاقتداء بهم، إذ ليس كل فعل من أفعالهم يتميز مقصده من القربة والإباحة أو الحظر أو المعصية، ولا يصح أن يؤمر المرء بامتثال أمر لعله معصية، لا سيما على من يرى تقديم الفعل على القول إذا تعارضا من الأصوليين‏.‏ قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني‏:‏ واختلفوا في الصغائر، والذي عليه الأكثر أن ذلك غير جائز عليهم، وصار بعضهم إلى تجويزها، ولا أصل لهذه المقالة‏.‏ وقال بعض المتأخرين ممن ذهب إلى القول الأول‏:‏ الذي ينبغي أن يقال إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم ونسبها إليهم وعاتبهم عليها، وأخبروا بها عن نفوسهم وتنصلوا منها وأشفقوا منها وتابوا، وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها وإن قبل ذلك أحادها، وكل ذلك مما لا يزري بمناصبهم، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة الندور وعلى جهة الخطأ والنسيان، أو تأويل دعا إلى ذلك فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات وفي حقهم سيئات، ‏(2)‏ إلى مناصبهم وعلو أقدارهم، إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس، فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة مع علمهم بالأمن والأمان والسلامة‏.‏ قال‏:‏ وهذا هو الحق‏.‏ ولقد أحسن الجنيد حيث قال‏:‏ حسنات الأبرار سيئات المقربين‏.‏ فهم - صلوات الله وسلامه عليهم - وإن كان قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم فلم يخل ذلك بمناصبهم ولا قدح في رتبهم، بل قد تلافاهم واجتباهم وهداهم ومدحهم وزكاهم واختارهم واصطفاهم، صلوات الله عليهم وسلامه‏.‏

قوله تعالى‏{‏فتكونا من الظالمين‏}‏ فتكونا عطف على ‏{‏تقربا‏}‏ فلذلك حذفت النون‏.‏ وزعم الجرمي أن الفاء هي الناصبة، وكلاهما جائز‏.‏

الظلم أصله وضع الشيء في غير موضعه‏.‏ والأرض المظلومة‏:‏ التي لم تحفر قط ثم حفرت‏.‏ قال النابغة‏:‏

وقفت فيها أصيلا لا وأسائلها عيت جوابا وما بالربع من أحد

إلا الأواري لأيا ما أبينها والنؤيَ كالحوض بالمظلومة الجلد

ويسمى ذلك التراب الظليم‏.‏ قال الشاعر‏:‏

فأصبح في غبراء بعد إشاحة على العيش مردود عليها ظليمها

وإذا نحر البعير من غير داء به فقد ظلم، ومنه‏:‏‏.‏‏.‏ ظلامون للجزر

ويقال‏:‏ سقانا ظليمة طيبة، إذا سقاهم اللبن قبل إدراكه‏.‏ وقد ظلم وطبه، إذا سقى منه قبل أن يروب ويخرج زبده‏.‏ واللبن مظلوم وظليم‏.‏ قال‏:‏

وقائلة ظلمت لكم سقائي وهل يخفى على العكد الظليم

ورجل ظليم‏:‏ شديد الظلم‏.‏ والظلم‏:‏ الشرك، قال الله تعالى‏{‏إن الشرك لظلم عظيم‏}‏

 الآية رقم ‏(‏36‏)‏ ‏

{‏فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فأزلهما الشيطان عنها‏}‏ قرأ الجماعة ‏{‏فأزلهما‏}‏ بغير ألف، من الزلة وهي الخطيئة، أي استزلهما وأوقهما فيها‏.‏ وقرأ حمزة ‏{‏فأزالهما‏}‏ بألف، من التنحية، أي نحاهما‏.‏ يقال‏:‏ أزلته فزال‏.‏ قال ابن كيسان‏:‏ فأزالهما من الزوال، أي صرفهما عما كانا عليه من الطاعة إلى المعصية‏.‏

قلت‏:‏ وعلى هذا تكون القراءتان بمعنى، إلا أن قراءة الجماعة أمكن في المعنى‏.‏ يقال منه‏:‏ أزللته فزل‏.‏ ودل على هذا قوله تعالى‏{‏إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا‏} ، وقوله‏{‏فوسوس لهما الشيطان‏}‏ والوسوسة إنما هي إدخالهما في الزلل بالمعصية، وليس للشيطان قدرة على زوال أحد من مكان إلى مكان، إنما قدرته ‏(3)‏ إدخاله في الزلل، فيكون ذلك سببا إلى زواله من مكان إلى مكان يذنبه‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن معنى أزلهما من زل عن المكان إذا تنحى، فيكون في المعنى كقراءة حمزة من الزوال‏.‏ قال امرؤ القيس‏:‏

يزل الغلام الخف عن صهواته ويلوي بأثواب العنيف المثقل

وقال أيضا‏:‏

كميت يزل اللبد عن حال متنه كما زلت الصفواء بالمتنزل

قوله تعالى‏{‏فأخرجهما مما كانا فيه‏}‏ إذا جعل أزال من زال عن المكان فقوله‏{‏فأخرجهما‏}‏ تأكيد وبيان للزوال، إذ قد يمكن أن يزولا عن مكان كانا فيه إلى مكان آخر من الجنة، وليس كذلك، وإنما كان إخراجهما من الجنة إلى الأرض، لأنهما خلقا منها، وليكون آدم خليفة في الأرض‏.‏ ولم يقصد إبليس - لعنه الله - إخراجه منها وإنما قصد إسقاطه من مرتبته وإبعاده كما أبعد هو، فلم يبلغ مقصده ولا أدرك مراده، بل ازداد سخنة عين وغيظ نفس وخيبة ظن‏.‏ قال الله جل ثناؤه‏{‏ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى‏}‏.‏ فصار عليه السلام خليفة الله في أرضه بعد أن كان جارا له في داره، فكم بين الخليفة والجار صلى الله عليه وسلم‏.‏ ونسب ذلك إلى إبليس، لأنه كان بسببه وإغوائه‏.‏ ولا خلاف بين أهل التأويل وغيرهم أن إبليس كان متولي إغواء آدم، واختلف في الكيفية، فقال ابن مسعود وابن عباس وجمهور العلماء أغواهما مشافهة، ودليل ذلك قوله تعالى{‏وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين‏}‏ والمقاسمة ظاهرها المشافهة‏.‏ وقال بعضهم، وذكره عبدالرزاق عن وهب بن منبه،‏:‏ دخل الجنة في فم الحية وهى ذات أربع كالبختية من أحسن دابة خلقها الله تعالى بعد أن عرض نفسه على كثير من الحيوان فلم يدخله إلا الحية، فلما دخلت به الجنة خرج من جوفها إبليس فأخذ من الشجرة التي نهى الله آدم وزوجه عنها فجاء بها إلى حواء فقال‏:‏ انظري إلى هذه الشجرة، ما أطيب ريحها وأطيب طعمها وأحسن لونها فلم يزل يغويها حتى أخذتها حواء فأكلتها‏.‏ ثم أغوى آدم، وقالت له حواء‏:‏ كل فإني قد أكلت فلم يضرني، فأكل منها فبدت لهما سوآتهما وحصلا في حكم الذنب، فدخل آدم في جوف الشجرة، فناداه ربه‏:‏ أين أنت‏؟‏ فقال‏:‏ أنا هذا يا رب، قال‏:‏ ألا تخرج‏؟‏ قال أستحي منك يا رب، قال‏:‏ أهبط إلى الأرض التي خلقت منها‏.‏ ولعنت الحية وردت قوائمها في جوفها وجعلت العداوة بينها وبين بني آدم، ولذلك أمرنا بقتلها، على ما يأتي بيانه‏.‏ وقيل لحواء‏:‏ كما أدميت الشجرة فكذلك يصيبك الدم كل شهر وتحملين وتضعين كرها تشرفين به على الموت مرارا‏.‏ زاد الطبري والنقاش‏:‏ وتكوني سفيهة وقد كنت حليمة‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ إن إبليس لم يدخل الجنة إلى آدم بعد ما أخرج منها وإنما أغوى بشيطانه وسلطانه ووسواسه التي أعطاه الله تعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم‏)‏‏.‏ والله أعلم‏.‏ وسيأتي في الأعراف أنه لما أكل بقي عريانا وطلب ما يستتر به فتباعدت عنه الأشجار وبكتوه بالمعصية، فرحمته شجرة التين، فأخذ من ورقه فاستتر به، فبلي بالعري دون الشجر‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقيل‏:‏ إن الحكمة في إخراج آدم من الجنة عمارة الدنيا‏.‏

يذكر أن الحية كانت خادم آدم عليه السلام في الجنة فخانته بأن مكنت عدو الله من نفسها وأظهرت العداوة له هناك، فلما أهبطوا تأكدت العداوة وجعل رزقها التراب، وقيل لها‏:‏ أنت عدو بني آدم وهم أعداؤك وحيث لقيك منهم أحد شدخ رأسك‏.‏ روى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏خمس يقتلهن المحرم‏)‏ فذكر الحية فيهن‏.‏ و روى أن إبليس قال لها‏:‏ أدخليني الجنة وأنت في ذمتي، فكان ابن عباس يقول‏:‏ أخفروا ذمة إبليس‏.‏ وروت ساكنة بنت الجعد عن سراء بنت نبهان الغنوية قالت‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏اقتلوا‏)‏ الحيات صغيرها وكبيرها وأسودها وأبيضها فإن من قتلها كانت له فداء من النار ومن قتلته كان شهيدا‏)‏‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ وإنما كانت له فداء من النار لمشاركتها إبليس وإعانته على ضرر آدم وولده، فذلك كان من قتل حية فكأنما قتل كافرا‏.‏ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدا‏)‏‏.‏‏"‏ أخرجه مسلم وغيره‏"‏‏.‏

روى ابن جريج عن عمرو بن دينار عن أبي عبيدة بن عبدالله بن مسعود قال‏:‏ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ بمنى فمرت حية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اقتلوها‏)‏ فسبقتنا إلى جحر فدخلته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هاتوا بسعفة ونار فأضرموها عليه نارا‏)‏‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ وهذا الحديث يخص نهيه عليه السلام عن المثلة وعن أن يعذب أحد بعذاب الله تعالى، قالوا‏:‏ فلم يبق لهذا العدو حرمة حيث فاته حتى أوصل إليه الهلاك من حيث قدر‏.‏

فإن قيل‏:‏ قد روي عن إبراهيم النخعي أنه كره أن تحرق العقرب بالنار، وقال‏:‏ هو مثلة‏.‏ قيل له‏:‏ يحتمل أن يكون لم يبلغه هذا الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل على الأثر الذي جاء‏:‏ ‏(‏لا تعذبوا بعذاب الله‏)‏ فكان على هذا سبيل العمل عنده‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد ‏"‏روى مسلم عن عبدالله بن مسعود ‏"‏قال‏:‏ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار وقد أنزلت عليه‏{‏والمرسلات عرفا‏}‏ ‏.‏ فنحن نأخذها من فيه رطبة، إذ خرجت علينا حية، فقال‏:‏ ‏(‏اقتلوها‏)‏، فابتدرناها لنقتلها فسبقتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وقاها الله شركم كما وقاكم شرها‏)‏‏.‏ فلم يضرم نارا ولا احتال في قتلها‏.‏ قيل له‏:‏ يحتمل أن يكون لم يجد نارا فتركها، أو لم يكن الجحر بهيئة ينتفع بالنار هناك مع ضرر الدخان وعدم وصوله إلى الحيوان‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏وقاها الله شركم‏)‏ أي قتلكم إياها ‏(‏كما وقاكم شرها‏)‏ أي لسعها‏.‏

الأمر بقتل الحيات من باب الإرشاد إلى دفع المضرة المخوفة من الحيات، فما كان منها متحقق الضرر وجبت المبادرة إلى قتله، لقوله‏:‏ ‏(‏اقتلوا الحيات واقتلوا ذا الطفيتين والأبتر فإنهما يخطفان البصر ويسقطان الحبل‏)‏‏.‏ فخصهما بالذكر مع أنهما دخلا في العموم ونبه على ذلك بسبب عظم ضررهما‏.‏ وما لم يتحقق ضرره فما كان منها في غير البيوت قتل أيضا لظاهر الأمر العام، ولأن نوع الحيات غالبه الضرر، فيستصحب ذلك فيه، ولأنه كله مروع بصورته وبما في النفوس من النفرة عنه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله يحب الشجاعة ولو على قتل حية‏)‏‏.‏ فشجع على قتلها‏.‏ وقال فيما ‏"‏خرجه أبو داود من حديث عبدالله بن مسعود مرفوعا‏"‏‏:‏ ‏(‏اقتلوا الحيات كلهن فمن خاف ثأرهن فليس مني‏)‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

ما كان من الحيات في البيوت فلا يقتل حتى يؤذن ثلاثة أيام، لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام‏)‏‏.‏ وقد حمل بعض العلماء هذا الحديث على المدينة وحدها لإسلام الجن بها، قالوا‏:‏ ولا نعلم هل أسلم من جن غير المدينة أحد أو لا، قاله ابن نافع‏.‏ وقال مالك‏:‏ نهى عن قتل جنان البيوت في جميع البلاد‏.‏ وهو الصحيح، لأن الله عز وجل قال‏{‏وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن‏}‏ الآية‏.‏ وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن‏)‏ وفيه‏:‏ وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة، الحديث‏.‏ وسيأتي بكماله في سورة ‏{‏الجن‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وإذا ثبت هذا فلا يقتل شيء منها حتى يحرج عليه وينذر، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏

روى الأئمة عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته، قال‏:‏ فوجدته يصلي، فجلست انتظره حتى يقضي صلاته، فسمعت تحريكا في عراجين ناحية البيت، فالتفت فإذا حية، فوثبت لأقتلها، فأشار إلي أن أجلس فجلست، فلما انصرف أشار إلى بيت في الدار فقال‏:‏ أترى هذا البيت‏؟‏ فقلت نعم، فقال‏:‏ كان فيه فتى منا حديث عهد بعرس، قال‏:‏ فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله، فاستأذنه يوما، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة‏)‏‏.‏ فأخذ الرجل سلاحه ثم رجع، فإذا امرأته بين البابين قائمة فأهوى إليها بالرمح ليطعنها به وأصابته غيرة، فقالت له‏:‏ اكفف عليك رمحك، وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج فركزه في الدار فاضطربت عليه، فما يدرى أيهما كان أسرع موتا، الحية أم الفتى قال‏:‏ فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، وقلنا‏:‏ ادع الله يحييه لنا، فقال‏:‏ ‏(‏استغفروا لأخيكم - ثم قال‏:‏ - إن بالمدينة جنا قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان‏)‏‏.‏ وفي طريق أخرى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن لهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم شيئا منها فحرجوا عليها ثلاثا فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر - وقال لهم‏:‏ - اذهبوا فادفنوا صاحبكم‏)‏‏.‏ قال علماؤنا رحمة الله عليهم‏:‏ لا يفهم من هذا الحديث أن هذا الجان الذي قتله هذا الفتى كان مسلما وأن الجن قتلته به قصاصا، لأنه لو سلم أن القصاص مشروع بيننا وبين الجن لكان إنما يكون في العمد المحض، وهذا الفتى لم يقصد ولم يتعمد قتل نفس مسلمة، إذ لم يكن عنده علم من ذلك، وإنما قصد إلى قتل ما سوغ قتل نوعه شرعا، فهذا قتل خطأ ولا قصاص فيه‏.‏ فالأولى أن يقال‏:‏ إن كفار الجن أو فسقتهم قتلوا بصاحبهم عدوا وانتقاما‏.‏ وقد قتلت سعد بن عبادة رضي الله عنه، وذلك أنه وجد ميتا في مغتسله وقد اخضر جسده، ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلا يقول ولا يرون أحدا‏:‏

قد قتلنا سيد الخز رج سعد بن عباده

ورميناه بسهمي ن فلم نخط فؤاده

وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن بالمدينة جنا قد أسلموا‏)‏ ليبين طريقا يحصل به التحرز من قتل المسلم منهم ويتسلط به على قتل الكافر منهم‏.‏ روي من وجوه أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قتلت جانا فأريت في المنام أن قائلا يقول لها‏:‏ لقد قتلت مسلما، فقالت‏:‏ لو كان مسلما لم يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ما دخل عليك إلا وعليك ثيابك‏.‏ فأصبحت فأمرت باثني عشر ألف درهم فجعلت في سبيل الله‏.‏ وفي رواية‏:‏ ما دخل عليك إلا وأنت مستترة، فتصدقت وأعتقت رقابا‏.‏ وقال الربيع بن بدر‏:‏ الجان من الحيات التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها هي التي تمشي ولا تلتوي، وعن علقمة نحوه‏.‏

في صفة الإنذار، قال مالك‏:‏ أحب إلي أن ينذروا ثلاثة أيام‏.‏ وقاله عيسى بن دينار، وإن ظهر في اليوم مرارا‏.‏ ولا يقتصر على إنذاره ثلاث مرار في يوم واحد حتى يكون في ثلاثة أيام‏.‏ وقيل‏:‏ يكفي ثلاث مرار، لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏فليؤذنه ثلاثا‏)‏، وقوله‏:‏ ‏(‏حرجوا عليه ثلاثا‏)‏ ولأن ثلاثا للعدد المؤنث، فظهر أن المراد ثلاث مرات‏.‏ وقول مالك أولى، لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ثلاثة أيام‏)‏‏.‏ وهو نص صحيح مقيد لتلك المطلقات، ويحمل ثلاثا على إرادة ليالي الأيام الثلاث، فغلب الليلة على عادة العرب في باب التاريخ فإنها تغلب فيها التأنيث‏.‏ قال مالك‏:‏ ويكفي في الإنذار أن يقول‏:‏ أحرج عليك بالله واليوم الآخر ألا تبدوا لنا ولا تؤذونا‏.‏ وذكر ثابت البناني عن عبدالرحمن بن أبي ليلى أنه ذكر عنده حيات البيوت فقال‏:‏ إذا رأيتم منها شيئا في مساكنكم فقولوا‏:‏ أنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم نوح عليه السلام، وأنشدكم بالعهد الذي أخذ عليكم سليمان عليه السلام، فإذا رأيتم منهن شيئا بعد فاقتلوه‏.‏

قلت‏:‏ وهذا يدل بظاهره أنه يكفي في الإذن مرة واحدة، والحديث يرده‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقد حكى ابن حبيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول‏:‏ ‏(‏أنشدكن بالعهد الذي أخذ عليكن سليمان - عليه السلام - ألا تؤذينا وألا تظهرن علينا‏)‏0

روى جبير عن نفير عن أبي ثعلبة الخشني - واسمه جرثوم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الجن على ثلاثة أثلاث فثلث لهم أجنحة يطيرون في الهواء وثلث حيات وكلاب وثلث يحلون ويظعنون‏)‏‏.‏ و روى أبو الدرداء - واسمه عويمر - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خلق الجن ثلاثة أثلاث فثلث كلاب وحيات وخشاش الأرض وثلث ريح هفافة وثلث كبني آدم لهم الثواب وعليهم العقاب وخلق الله الإنس ثلاثة أثلاث فثلث لهم قلوب لا يفقهون بها وأعين لا يبصرون بها وآذان لا يسمعون بها إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا وثلث أجسادهم كأجساد بني آدم وقلوبهم قلوب الشياطين وثلث في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله‏)‏‏.‏

ما كان من الحيوان أصله الإذاية فإنه يقتل ابتداء، لأجل إذايته من غير خلاف، كالحية والعقرب والفأر والوزغ، وشبهه‏.‏ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏ وذكر الحديث‏.‏

فالحية أبدت جوهرها الخبيث حيث خانت آدم بأن أدخلت إبليس الجنة بين فكيها، ولو كانت تبرزه ما تركها رضوان تدخل به‏.‏ وقال لها إبليس أنت في ذمتي، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها وقال‏:‏ ‏(‏اقتلوها ولو كنتم في الصلاة‏)‏ يعني الحية والعقرب‏.‏ والوزغة نفخت على نار إبراهيم عليه السلام من بين سائر الدواب فلعنت‏.‏ وهذا من نوع ما يروى في الحية‏.‏ وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من قتل وزغة فكأنما قتل كافرا‏)‏‏.‏‏"‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة‏"‏ عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قتل وزغة في أول ضربة كتبت له مائة حسنة وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك‏)‏ وفي راوية أنه قال‏:‏ ‏(‏في أول ضربة سبعون حسنة‏)‏‏.‏ والفأرة أبدت جوهرها بأن عمدت إلى حبال سفينة نوح عليه السلام فقطعتها‏.‏ و‏"‏روى عبدالرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد الخدري ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يقتل المحرم الحية والعقرب والحدأة والسبع العادي والكلب العقور والفويسقة‏)‏‏.‏ واستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أخذت فتيلة لتحرق البيت فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلها‏.‏ والغراب أبدى جوهره حيث بعثه نبي الله نوح عليه السلام من السفينة ليأتيه بخبر الأرض فترك أمره وأقبل على جيفة‏.‏ هذا كله في معنى الحية، فلذلك ذكرناه‏.‏ وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان في التعليل في المائدة وغيرها إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى ‏{‏وقلنا اهبطوا‏}‏ حذفت الألف من ‏{‏اهبطوا‏}‏ في اللفظ لأنها ألف وصل‏.‏ وحذفت الألف من ‏{‏قلنا‏}‏ في اللفظ لسكونها وسكون الهاء بعدها‏.‏ و روى محمد بن مصفى عن أبي حيوة ضم الباء في ‏{‏اهبطوا‏}‏، وهي لغة يقويها أنه غير متعد والأكثر في غير المتعدي أن يأتي على يفعل‏.‏ والخطاب لآدم وحواء والحية والشيطان، في قول ابن عباس‏.‏ وقال الحسن‏:‏ آدم وحواء والوسوسة‏.‏ وقال مجاهد والحسن أيضا‏:‏ بنو آدم وبنو إبليس‏.‏ والهبوط‏:‏ النزول من فوق إلى أسفل، فأهبط آدم بسرنديب في الهند بجبل يقال له ‏{‏بوذ‏}‏ ومعه ريح الجنة فعلق بشجرها وأوديتها فامتلأ ما هناك طيبا، فمن ثم يؤتى بالطيب من ريح آدم عليه السلام‏.‏ وكان السحاب يمسح رأسه فأصلع، فأورث ولده الصلع‏.‏ وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا‏)‏ الحديث‏.‏‏"‏ وأخرجه مسلم‏"‏ وسيأتي‏.‏ وأهبطت حواء بجدة وإبليس بالأبلة، والحية ببيسان، وقيل‏:‏ بسجستان‏.‏ وسجستان أكثر بلاد الله حيات، ولولا العربد الذي يأكلها ويفني كثيرا منها لأخليت سجستان من أجل الحيات، ذكره أبو الحسن المسعودي‏.‏

قوله تعالى ‏{‏بعضكم لبعض عدو‏}‏ ‏{‏بعضكم‏}‏ مبتدأ، ‏{‏عدو‏}‏ خبره والجملة في موضع نصب على الحال، والتقدير وهذه حالكم‏.‏ وحذفت الواو من و‏{‏بعضكم‏}‏ لأن في الكلام عائدا، كما يقال‏:‏ رأيتك السماء تمطر عليك‏.‏ والعدو‏:‏ خلاف الصديق، وهو من عدا إذا ظلم‏.‏ وذئب عدوان‏:‏ يعدو على الناس‏.‏ والعدوان‏:‏ الظلم الصراح‏.‏ وقيل‏:‏ هو مأخوذ من المجاوزة، من قولك‏:‏ لا يعدوك هذا الأمر، أي لا يتجاوزك‏.‏ وعداه إذا جاوزه، فسمي عدوا لمجاوزة الحد في مكروه صاحبه، ومنه العدو بالقدم لمجاوزة الشيء، والمعنيان متقاربان، فإن من ظلم فقد تجاوز‏.‏

قلت‏:‏ وقد حمل بعض العلماء قوله تعالى‏{‏بعضكم لبعض عدو‏}‏ على الإنسان نفسه، وفيه بعد وإن كان صحيحا معنى‏.‏ يدل عليه قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إن العبد إذا أصبح تقول جوارحه للسانه اتق الله فينا فإنك إذا استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا‏)‏‏.‏ فإن قيل‏:‏ كيف قال ‏{‏عدو‏{‏ ولم يقل أعداء، ففيه جوابان أحدهما‏:‏ أن بعضا وكلا يخبر عنهما بالواحد على اللفظ وعلى المعنى، وذلك في القرآن، قال الله تعالى‏{‏وكلهم آتيه يوم القيامة فردا‏} ‏ على اللفظ، وقال تعالى‏{‏وكل أتوه داخرين‏} ‏ُ على المعنى‏.‏ والجواب الآخر‏:‏ أن عدوا يفرد في موضع الجمع، قال الله عز وجل‏{‏وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا‏}‏ُُ بمعنى أعداء، وقال تعالى‏{‏يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو‏} .‏ وقال ابن فارس‏:‏ العدو اسم جامع للواحد والاثنين والثلاثة والتأنيث، وقد يجمع‏.‏

لم يكن إخراج الله تعالى آدم من الجنة وإهباطه منها عقوبة له لأنه أهبطه بعد أن تاب عليه وقبل توبته وإنما أهبطه إما تأديبا وإما تغليظا للمحنة والصحيح في إهباطه وسكناه في الأرض ما قد ظهر من الحكمة الأزلية في ذلك وهي نشر نسله فيها ليكلفهم ويمتحنهم ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الأخروي إذ الجنة والنار ليستا بدار تكليف فكانت تلك الأكلة سبب إهباطه من الجنة ولله أن يفعل ما يشاء وقد قال ‏{‏إني جاعل في الأرض خليفة‏}‏ وهذه منقبة عظيمة وفضيلة كريمة شريفة وقد تقدمت الإشارة إليها مع أنه خلق من الأرض وإنما قلنا إنما أهبطه بعد أن تاب عليه لقول ثانية ‏{‏قلنا أهبطوا‏}‏ وسيأتي‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولكم في الأرض مستقر‏}‏ ابتداء وخبر، أي موضع استقرار‏.‏ قاله أبو العالية وابن زيد‏.‏ وقال السدي‏{‏مستقر‏}‏ يعني القبور‏.‏ قلت‏:‏ وقول الله تعالى‏{‏جعل لكم الأرض قرارا‏} ‏ يحتمل المعنيين‏.‏ والله أعلم‏.‏ قوله تعالى‏{‏ومتاع ‏}‏المتاع ما يستمتع به من أكل ولبس وحياة وحديث وأنس وغير ذلك، ومنه سميت متعة النكاح لأنها يتمتع بها وأنشد سليمان بن عبدالملك حين وقف على قبر ابنه أيوب إثر دفنه‏:‏

وقفت على قبر غريب بقفرة متاع قليل من حبيب مفارق

قوله تعالى‏{‏إلى حين ‏}‏اختلف المتأولون في الحين على أقوال، فقالت فرقة إلى الموت وهذا قول من يقول المستقر هو المقام في الدنيا وقيل إلى قيام الساعة، وهذا قول من يقول المستقر هو القبور وقال الربيع ‏{‏إلى حين‏}‏ إلى أجل والحين الوقت البعيد فحينئذ تبعيد من قولك الآن قال خويلد ‏:‏

كأبي الرماد عظيم القدر جفنته حين الشتاء كحوض المنهل اللقف

لقف الحوض لقفا، أي تهور من أسفله واتسع‏.‏ وربما أدخلوا عليه التاء قال أبو وجزة‏:‏

العاطفون تحين ما من عاطف والمطعمون زمان أين المطعم

والحين أيضا‏:‏ المدة ومنه قوله تعالى‏{‏هل أتى على الإنسان حين من الدهر‏}‏ والحين الساعة قال الله تعالى ‏{‏أو تقول حين ترى العذاب‏}‏ قال ابن عرفة الحين القطعة من الدهر كالساعة فما فوقها وقوله ‏{‏فذرهم في غمرتهم حتى حين‏}‏ أي حتى تفنى آجالهم وقوله تعالى ‏{‏تؤتي أكلها كل حين‏} أي كل سنة وقيل بل كل ستة أشهر وقيل بل غدوة وعشيا قال الأزهري الحين اسم كالوقت يصلح لجميع الأزمان كلها طالت أو قصرت‏.‏ والمعنى أنه ينتفع بها في كل وقت ولا ينقطع نفعها البتة قال والحين يوم القيامة‏.‏ والحين الغدوة والعشية قال الله تعالى ‏{‏فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون‏} ‏ُ ويقال عاملته محاينة من الحين وأحينت بالمكان إذا أقمت به حينا وحان حين كذا أي قرب‏.‏ قالت بثينة‏:‏

وإن سُلُوّي عن جميل لساعة من الدهر ما حانت ولا حان حينها

لما اختلف أهل اللسان في الحين اختلف فيه أيضا علماؤنا وغيرهم في فقال الفراء الحين حينان حين لا يوقف على حده والحين الذي ذكر الله جل ثناؤه ‏{‏تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها‏}‏ ُ ستة أشهر‏:‏ قال ابن العربي الحين المجهول لا يتعلق به حكم والحين المعلوم هو الذي تتعلق به الأحكام ويرتبط به التكليف وأكثر المعلوم سنة‏.‏ ومالك يرى في الأحكام والأيمان أعم الأسماء والأزمنة والشافعي يرى الأقل وأبو حنيفة توسط فقال ستة أشهر‏.‏ ولا معنى لقوله لأن المقدرات عنده لا تثبت قياسا وليس فيه نص عن صاحب الشريعة وإنما المعول على المعنى بعد معرفة مقتضى اللفظ لغة فمن نذر أن يصلي حينا فيحمل على ركعة عند الشافعي لأنه أقل النافلة قياسا على ركعة الوتر‏.‏ وقال مالك وأصحابه أقل النافلة ركعتان فيقدر الزمان بقدر الفعل وذكر ابن خويز منداد في أحكامه أن من حلف ألا يكلم فلانا حينا أولا يفعل كذا حينا أن الحين سنة قال واتفقوا في الأحكام أن من حلف ألا يفعل كذا حينا أولا يكلم فلانا حينا أن الزيادة على سنة لم تدخل في يمينه‏.‏

قلت هذا الاتفاق إنما هو في المذهب‏.‏ قال مالك رحمه الله‏:‏ من حلف ألا يفعل شيئا إلى حين أو زمان أو دهر، فذلك كله سنة‏.‏ وقال عنه ابن وهب‏:‏ إنه شك في الدهر أن يكون سنة‏.‏ وحكى ابن المنذر عن يعقوب وابن الحسن أن الدهر ستة أشهر‏.‏ وعن ابن عباس وأصحاب الرأي وعكرمة وسعيد بن جبير وعامر الشعبي وعبيدة في قوله تعالى ‏{‏تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها‏} ‏ُ أنه ستة أشهر وقال الأوزاعي وأبو عبيدالحين ستة أشهر وليس عند الشافعي في الحين وقت معلوم ولا للحين غاية قد يكون الحين عنده مدة الدنيا وقال لا نحنثه أبدا، والورع أن يقضيه قبل انقضاء يوم وقال أبو ثور وغيره الحين والزمان على ما تحتمله اللغة يقال قد جئت من حين ولعله لم يجئ من نصف يوم قال الكيا الطبري الشافعي وبالجملة الحين له مصارف ولم ير الشافعي تعيين محمل من هذه المحامل لأنه مجمل لم يوضع في اللغة لمعنى معين وقال بعض العلماء في قوله تعالى ‏{‏إلى حين‏}‏ قائدة بشارة إلى آدم عليه السلام ليعلم أنه غير باق فيها ومنتقل إلى الجنة التي وعد بالرجوع إليها وهي لغير آدم دالة على المعاد فحسب والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏37‏)‏ ‏

{‏فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم‏}‏

قوله تعالى ‏{‏فتلقى آدم من ربه كلمات‏}‏ تلقى قيل معناه فهم وفطن‏.‏ وقيل‏:‏ قبل وأخذ وكان عليه السلام يتلقى الوحي أي يستقبله ويأخذه ويتلقفه‏.‏ تقول خرجنا نتلقى الحجيج أي نستقبلهم‏.‏ وقيل معنى تلقى تلقن هذا في المعنى صحيح ولكن لا يجوز أن يكون التلقي من التلقن في الأصل لأن أحد الحرفين إنما يقلب ياء إذا تجانسا، مثل تظنوا من تظنن وتقصى من تقصص ومثله تسريت من تسررت، وأمليت من أمللت وشبه ذلك ولهذا لا يقال‏:‏ تقبل من تقبل ولا تلقى من تلقن فاعلم‏.‏ وحكى مكي أنه ألهمها فانتفع بها‏.‏ وقال الحسن قبولها تعلمه لها وعمله بها

واختلف أهل التأويل في الكلمات، فقال ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير والضحاك ومجاهد هي قوله ‏{‏ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين‏} ‏ وعن مجاهد أيضا‏:‏ سبحانك اللهم لا إله إلا أنت ربي ظلمت نفسي فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم‏:‏ وقالت طائفة رأى مكتوبا على ساق العرش ‏{‏محمد رسول الله‏}‏ فتشفع بذلك، فهي الكلمات‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ المراد بالكلمات البكاء والحياء والدعاء وقيل‏:‏ الندم والاستغفار والحزن‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا يقتضي أن آدم عليه السلام لم يقل شيئا إلا الاستغفار المعهود‏.‏ وسئل بعض السلف عما ينبغي أن يقول المذنب فقال يقول ما قاله أبواه ‏{‏ربنا ظلمنا أنفسنا‏}‏ الآية وقال موسى ‏{‏رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي‏} ‏ وقال يونس ‏{‏لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين‏} وعن ابن عباس ووهب بن منبه‏:‏ أن الكلمات ‏{‏سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي اغفر لي إنك خير الغافرين سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم‏}‏ وقال محمد بن كعب هي قوله‏{‏لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم‏.‏ لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أنت الغفور الرحيم‏.‏ لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك عملت سوءا وظلمت نفسي فارحمني إنك أرحم الراحمين وقيل‏:‏ الكلمات قوله حين عطس ‏{‏الحمد لله‏}‏ والكلمات‏:‏ جمع كلمة والكلمة تقع على القليل والكثير وقد تقدم‏:‏

قوله تعالى‏{‏فتاب عليه‏}‏ أي قبل توبته، أو وفقه للتوبة‏.‏ وكان ذلك في يوم عاشوراء في يوم جمعة على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏ وتاب العبد‏:‏ رجع إلى طاعة ربه وعبد تواب‏:‏ كثير الرجوع إلى الطاعة وأصل التوبة الرجوع يقال‏:‏ تاب وثاب وأب وأناب‏:‏ رجع‏.‏

إن قيل‏:‏ لم قال ‏{‏عليه‏}‏ لم يقل عليهما وحواء مشاركة له في الذنب بإجماع وقد قال ‏{‏ولا تقربا هذه الشجرة‏} و ‏}‏ قالا ربنا ظلمنا أنفسنا‏} فالجواب‏:‏ أن آدم عليه السلام لما خاطب في أول القصة بقوله ‏{‏اسكن‏}‏ خصه بالذكر في التلقي فلذلك كملت القصة بذكره وحده وأيضا فلأن المرأة حرمة ومستورة فأراد الله الستر لها ولذلك لم يذكرها في المعصية في قوله ‏{‏وعصى آدم ربه فغوى‏}‏ ُ وأيضا لما كانت المرأة تابعة للرجل في غالب الأمر لم تذكر كما لم يذكر فتى موسى مع موسى في قوله ‏{‏ألم أقل لك‏}‏ وقيل‏:‏ إنه دل بذكر التوبة عليه أنه تاب عليها إذ أمرهما سواء، قاله الحسن‏.‏ وقيل‏:‏ إنه مثل قوله تعالى ‏{‏وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها‏}‏ ُ أي التجارة لأنها كانت مقصود القوم فأعاد الضمير عليها ولم يقل إليهما والمعنى متقارب‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

رماني بأمر كنت منه ووالدي بريئا ومن فوق الطوي رماني

وفي التنزيل ‏{‏والله ورسوله أحق أن يرضوه‏} فحذف إيجازا واختصارا

قوله تعالى‏{‏إنه هو التواب الرحيم‏}‏ وصف نفسه سبحانه وتعالى بأنه التواب وتكرر في القرآن معرفا ومنكرا واسما وفعلا، وقد يطلق على العبد أيضا تواب قال الله تعالى ‏{‏إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين‏}‏ .‏ قال ابن العربي‏:‏ ولعلمائنا في وصف الرب بأنه تواب ثلاثة أقوال أحدها‏:‏ أنه يجوز في حق الرب سبحانه وتعالى فيدعى به كما في الكتاب والسنة ولا يتأول وقال آخرون‏:‏ هو وصف حقيقي لله سبحانه وتعالى وتوبة الله على العبد رجوعه من حال المعصية إلى حال الطاعة وقال آخرون‏:‏ توبة الله على العبد قبوله توبته، وذلك يحتمل أن يرجع إلى قوله سبحانه وتعالى قبلت توبتك وأن يرجع إلى خلقه الإنابة والرجوع في قلب المسيء وإجراء الطاعات على جوارحه الظاهرة‏.‏

لا يجوز أن يقال في حق الله تعالى‏:‏ تائب اسم فاعل من تاب يتوب لنا أن نطلق عليه من الأسماء والصفات إلا ما أطلقه هو على نفسه أو نبيه عليه السلام أو جماعة المسلمين، وإن كان في اللغة محتملا جائزا‏.‏ هذا هو الصحيح في هذا الباب على ما بيناه في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى قال الله تعالى ‏{‏لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار‏}‏ ُ وقال‏{‏وهو الذي يقبل التوبة عن عباده‏}‏ وإنما قيل لله عز وجل تواب، لمبالغة الفعل وكثرة قبوله توبة عباده لكثرة من يتوب إليه‏.‏

اعلم أنه ليس لأحد قدرة على خلق التوبة، لأن الله سبحانه وتعالى هو المنفرد بخلق الأعمال، خلافا للمعتزلة ومن قال بقولهم‏.‏ وكذلك ليس لأحد أن يقبل توبة من أسرف على نفسه ولا أن يعفو عنه قال علماؤنا‏:‏ وقد كفرت اليهود والنصارى بهذا الأصل العظيم في الدين ‏{‏اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله‏}‏ جل وعز، وجعلوا لمن أذنب أن يأتي الحبر أو الراهب فيعطيه شيئا ويحط عنه ذنوبه ‏{‏افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين‏}‏ ُ

قرأ ابن كثير ‏{‏فتلقى آدم من ربه كلمات‏}‏ والباقون برفع ‏{‏آدم‏}‏ ونصب ‏{‏كلمات‏}‏ والقراءتان ترجعان إلى معنى، لأن آدم إذا تلقي الكلمات فقد تلقته‏.‏ وقيل لما كانت الكلمات هي المنقذة لآدم بتوفيق الله تعالى له لقبوله إياها ودعائه بها كانت الكلمات فاعله وكأن الأصل على هذه القراءة ‏{‏فتلقت آدم من ربه كلمات‏}‏ ولكن لما بعد ما بين المؤنث وفعله حسن حذف علامة التأنيث‏.‏ وهذا أصل يجري في كل القرآن والكلام إذ ا جاء فعل المؤنث بغير علامة ومنه قولهم‏:‏ حضر القاضي اليوم امرأة‏.‏ وقيل‏:‏ إن الكلمات لما لم يكن تأنيثه حقيقيا حمل على معنى الكلم فذكر‏.‏ وقرأ الأعمش ‏{‏آدم من ربه‏}‏ مدغما‏.‏ وقرأ أبو نوفل بن أبي عقرب ‏{‏أنه‏}‏ بفتح الهمزة على معنى لأنه وكسر الباقون على الاستئناف‏.‏ وأدغم الهاء في الهاء عمرو وعيسى وطلحة فيما حكى أبو حاتم عنهم وقيل لا يجوز لأن بينهما واوا في اللفظ لا في الخط‏.‏ قال النحاس أجاز سيبويه أن تحذف هذه الواو وأنشد‏:‏

له زجل كأنه صوت حاد إذا طلب الوسيقة أو زمير

فعلى هذا يجوز الإدغام وهو رفع بالابتداء ‏{‏التواب‏}‏ خبره والجملة خبر ‏{‏إن‏}‏ ويجوز أن يكون ‏{‏هو‏}‏ توكيدا للهاء ويجوز أن تكون فاصلة، على ما تقدم‏.‏

وقال سعيد بن جبير لما أهبط آدم إلى الأرض لم يكن فيها شيء غير النسر في البر والحوت في البحر فكان النسر يأوي إلى الحوت فيبيت عنده فلما رأى النسر آدم قال‏:‏ يا حوت لقد أهبط اليوم إلى الأرض شيء يمشى على رجليه ويبطش بيديه فقال الحوت‏:‏ لئن كنت صادقا لي منه في البحر منجى ولا لك في البر منه مخلص‏.‏

 الآية رقم ‏(‏38‏)

ُ‏{‏قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قلنا اهبطوا‏}‏ كرر الأمر على جهة التغليظ وتأكيده، كما تقول لرجل‏:‏ قم قم‏.‏ وقيل‏:‏ كرر الأمر لما علق بكل أمر منهما حكما غير حكم الآخر فعلق بالأول العداوة وبالثاني إتيان الهدى‏.‏ وقيل‏:‏ الهبوط الأول من الجنة إلى السماء والثاني من السماء إلى الأرض وعلى هذا يكون فيه دليل على أن الجنة في السماء السابعة كما دل عليه حديث الإسراء على ما يأتي

‏{‏جميعا‏}‏ نصب على الحال وقال وهب بن منبه‏:‏ لما هبط آدم عليه السلام إلى الأرض قال إبليس للسباع إن هذا عدو لكم فأهلكوه فاجتمعوا وولوا أمرهم إلى الكلب وقالوا أنت أشجعنا وجعلوه رئيسا فلما رأى ذلك آدم عليه السلام تحير في ذلك فجاءه جبريل عليه السلام وقال له امسح يدك على رأس الكلب ففعل فلما رأت السباع أن الكلب ألف آدم تفرقوا واستأمنه الكلب فأمنه آدم فبقى معه ومع أولاده وقال الترمذي الحكيم نحو هذا وأن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض جاء إبليس إلى السباع فأشلاهم على آدم ليؤذوه وكان أشدهم عليه الكلب فأميت فؤاده فروي في الخبر أن جبريل عليه السلام أمره أن يضع يده على رأسه فوضعها فاطمأن إليه وألفه فصار ممن يحرسه ويحرس ولده ويألفهم وبموت فؤاده يفزع من الآدميين فلو رمي بمدر ولى هاربا ثم يعود آلفا لهم ففيه شعبة من إبليس وفيه شعبة من مسحة آدم عليه السلام فهو بشعبة إبليس ينبح ويهر ويعدو على الآدمي وبمسحة آدم مات فؤاده حتى ذل وانقاد وألف به وبولده يحرسهم ولهثه على كل أحواله من موت فؤاده ولذلك شبه الله سبحانه وتعالى العلماء السوء بالكلب على ما يأتي بيانه في الأعراف إن شاء الله تعالى ونزلت عليه تلك العصا التي جعلها الله آية لموسى فكان يطرد بها السباع عن نفسه

قوله تعالى‏{‏فإما يأتينكم مني هدى‏}‏ اختلف في معنى قوله ‏{‏هدى‏}‏ فقيل‏:‏ كتاب الله قاله السدي وقيل التوفيق للهداية، وقالت فرقة‏:‏ الهدى الرسل، وهي إلى آدم من الملائكة وإلى بنيه من البشر كما جاء في حديث أبي ذر وخرجه الآجري وفي قوله ‏{‏مني‏}‏ إشارة إلى أن أفعال العباد خلق لله تعالى خلافا للقدرية وغيرهم كما تقدم‏.‏ وقرأ الجحدري ‏{‏هديّ‏}‏ وهو لغة هذيل يقولون‏:‏ هدي وعصي ومحيي وأنشد النحويون لأبي ذؤيب يرثي بنيه

سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم فتخرموا ولكل جنب مصرع

قال النحاس‏:‏ وعلة هذه اللغة عند الخليل وسيبويه أن سبيل ياء الإضافة أن يكسر ما قبلها فلما لم يجز أن تتحرك الألف أبدلت ياء وأدغمت و‏{‏ما‏}‏ في قوله ‏{‏إما‏}‏ زائدة على ‏{‏إن‏}‏ التي للشرط وجواب الشرط الفاء مع الشرط الثاني في قوله ‏{‏فمن تبع‏}‏ و‏{‏من‏}‏ في موضع رفع بالابتداء و‏{‏تبع‏}‏ في موضع جزم بالشرط ‏{‏فلا خوف‏}‏ جوابه قال سيبويه الشرط الثاني وجوابه هما جواب الأول وقال الكسائي ‏{‏فلا خوف عليهم‏}‏ جواب الشرطين جميعا

قوله تعالى‏{‏فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون‏}‏ الخوف هو الذعر ولا يكون إلا في المستقبل وخاوفني فلان فخفته أي كنت أشد خوفا منه والتخوف التنقص ومنه قوله تعالى ‏{‏أو يأخذهم على تخوف‏}‏ وقرأ الزهري والحسن وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق ويعقوب ‏{‏فلا خوف‏}‏ بفتح الفاء على التبرئة والاختيار عند النحويين الرفع والتنوين على الابتداء لأن الثاني معرفة لا يكون فيه إلا الرفع لأن ‏{‏لا‏}‏ لا تعمل في معرفة فاختاروا في الأول الرفع أيضا ليكون الكلام من وجه واحد ويجوز أن تكون ‏{‏لا‏}‏ في قولك فلا خوف بمعنى ليس‏.‏

والحُزن والحَزَن ضد السرور ولا يكون إلا على ماض، وحزن الرجل ‏(‏بالكسر‏)‏ فهو حزن وحزين وأحزنه غيره وحزنه أيضا مثل أسلكه وسلكه ومحزون بني عليه‏.‏ قال اليزيدي حزنه لغة قريش وأحزنه لغة تميم وقد قرئ بهما‏.‏ واحتزن وتحزن بمعنىً، والمعنى في الآية فلا خوف عليهم فيما بين أيديهم من الآخرة ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ ليس فيه دليل على نفي أهوال يوم القيامة وخوفها على المطيعين لما وصفه الله تعالى ورسوله من شدائد القيامة إلا أنه يخففه عن المطيعين وإذا صاروا إلى رحمته فكأنهم لم يخافوا والله أعلم‏.‏